فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان الذي يحملهم على الإقدام على ذلك ضعف عقولهم وتوغلهم في النفاق ومرودهم عليه حتى بعثوا على مثل ذلك مع علمهم بأن ذلك لا ينجيهم لإحاطة علمه سبحانه، عبر بالحسبان، فقال دالًا على أنهم في الغاية من الجهل وقلة العقل: {ويحسبون} أي في القيامة بأيمانهم الكاذبة {أنهم على شيء} أي يحصل لهم به نفع لتخيلهم أن أيمانهم تروج على الله فتنجيهم كما كانت في الدنيا تنجيهم.
ولما أفهم ذلك أن أمورهم لا حقائق لها لا في إخباراتهم ولا في أيمانهم ولا في حسبانهم، قال مناديًا عليهم مؤكدًا لتكذيب حسبانهم: {ألا إنهم} أي خاصة {هم الكاذبون} أي المحكوم بكذبهم في حسبانهم وفي أخبارهم في الدارين لعراقتهم في وصف الكذب حيث لا يستحيون من الكذب عند الله.
ولما كان هذا الانهماك فيما لا يغني مما يحصل لسامعه غاية العجب من وقوع عاقل فيه مرة من الدهر، فضلًا عن ملازمته، أخبر عن الحامل لهم عليه، فقال مستأنفًا: {استحوذ} أي طلب أن يغلب ويسوق ويسرع ويضرب الحوطة ويحث ويقهر ويستولي {عليهم الشيطان} مع أنه طريد ومحترق، ووجد منه جميع ذلك، ووصل منهم إلى ما يريده، وملكهم ملكًا لم يبق لهم معه اختيار فصاروا رعيته وأقطاعه، وصار هو محيطًا بهم من كل جهة، غالبًا عليهم ظاهرًا وباطنًا، من قولهم: حذت الإبل أي استوليت عليها، وحاذ الحمار العانة- إذا جمعها وساقها غالبًا لها، والحوذ: السوق السريع، ومنه الأحوذي: الخفيف في المشي لحدقه، وجاء على الأصل على حكم الصحيح لأنه لم يبن على حاذ كافتقر فإنه لا مجرد له، لم يقولوا: فقر: {فأنساهم} أي فتسبب عن استحواذه عليهم أنه أنساهم {ذكر الله} أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى بعد أن كان ذكره مركوزًا في فطرهم الأولى، فصاروا لا يذكرونه أصلًا بقلب، ولا لسان.
ولما كان ذلك، أنتج ولابد قوله: {أولئك} أي الذين أحلوا أنفسهم أبعد منزل {حزب الشيطان} أي أتباعه وجنده وجماعته وطائفته وأصحابه والمحدقون به والمتحيزون إليه لدفع ما حزبه أي نابه واشتد عليه، المبعدون المحترقون لأنهم تبعوه ولم يخافوا في مجازيته وإنفاذ ما يريد لومة لائم مع أنه كله نقائص ومعايب، وهم مطبوعون على بغضه، وتركوا من له الكمال كله، وكر وحبه مركوز في فطرهم، فلذلك كانت ترجمة هذا ونتيجته قوله: {ألا} وأكد لظنهم الريح بما لهم في الدنيا من الكثرة وظهرو التعاضد والاستدراج بالبسط والسعة فقال: {إن حزب الشيطان} أي الطريد المحترق {هم} أي خاصة {الخاسرون} أي العريقون في هذا الوصف لأنهم لم يظفروا بغير الطرد والاحتراق.
ولما بين ما أوصلهم إليه نسيان الذكر من الخسار، بين أنه أوقعهم في العداوة، فقال معللًا الخسار والنسيان والتحزب، وأكد تكذيبًا لحالفهم على نفي ذلك مظهرًا موضع الإضمار للتنبيه على الوصف الموقع في الهلاك: {إن الذين يحادون} ولعل الإدغام لسترهم ذلك الإيمان، ويفهم منه الحكم على من جاهر بطريق الأولى {الله} أي يفعلون مع الملك الأعظم الذي لا كفوء له فعل من ينازع آخر في أرض فيغلب على طائفة منها فيجعل لها حدًا لا يتعداه خصمه {ورسوله} الذي عظمته من عظتمه.
ولما كانوا لا يفعلون ذلك إلا لكثرة أعوانهم وأتباعهم، فيظن من رآهم أنهم الأعزاء الذين لا أحد أعز منهم، قالتعالى نفيًا لهذا الغرور الظاهر: {أولئك} أي الأباعد الاسافل {في الأذلين} أي الذين يعرفون أنهم أذل الخلق بحيث يوصف كل منهم بأنه الأذل مطلقًا من غير مفضل عليه ليعم كل من يمكن منه ذل، وذلك في الدنيا والآخرة سواء كانوا فارس والروم أو أعظم منهم سواء كانوا ملوكًا كفرة كانوا أو فسقة، كما قال الحسن: إن للمعصية في قلوبهم لذلًا، وإن طقطقت بهم اللجم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}
روي أن واحدًا منهم قال: لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا، فنزلت هذه الآية.
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)}
قال ابن عباس: إن المنافق يحلف لله يوم القيامة كذبًا كما يحلف لأوليائه في الدنيا كذبًا أما الأول: فكقوله: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
وأما الثاني: فهو كقوله: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} [البقرة: 56] والمعنى أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنه يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب، فكان هذا الحلف الذميم يبقى معهم أبدًا، وإليه الإشارة بقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] قال الجبائي والقاضي: إن أهل الآخرة لا يكذبون، فالمراد من الآية أنهم يحلفون في الآخرة أنا ما كنا كافرين عند أنفسنا، وعلى هذا الوجه لا يكون هذا الحلف كذبًا، وقوله: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} أي في الدنيا، واعلم أن تفسير الآية بهذا الوجه لا شك أنه يقتضي ركاكة عظيمة في النظم، وقد استقصينا هذه المسألة في سورة الأنعام في تفسير قوله: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}
قال الزجاج: استحوذ في اللغة استولى، يقال: حاوزت الإبل، وحذتها إذا استوليت عليها وجمعتها، قال المبرد: استحوذ على الشيء حواه وأحاط به، وقالت عائشة في حق عمر: كان أحوذيًا، أي سائسًا ضابطًا للأمور، وهو أحد ما جاء على الأصل نحو: استصوب واستنوق، أي ملكهم الشيطان واستولى عليهم، ثم قال: {فأنساهم ذِكْرَ الله أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون} واحتج القاضي به في خلق الأعمال من وجهين الأول: ذلك النسيان لو حصل بخلق الله لكانت إضافتها إلى الشيطان كذبًا والثاني: لو حصل ذلك بخلق الله لكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)}
أي في جملة من هو أذل خلق الله، لأن ذل أحد الخصمين على حسب عز الخصم الثاني، فلما كانت عزة الله غير متناهية، كانت ذلة من ينازعه غير متناهية أيضًا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئًا} أي من عذابه شيئًا.
وقال مقاتل: قال المنافقون إن محمدًا يزعم أنه يُنصَر يوم القيامة، لقد شقينا إذا! فوالله لننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة.
فنزلت: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعًا} أي لهم عذاب مهين يوم يبعثهم {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} اليوم.
وهذا أمر عجيب وهو مغالطتهم باليمين غدًا، وقد صارت المعارف ضرورية.
وقال ابن عباس: هو قولهم {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ} بإنكارهم وحَلفِهم.
قال ابن زيد: ظنوا أنهم ينفعهم في الآخرة.
وقيل: {وَيَحْسَبُونَ} في الدنيا {أَنَّهُمْ على شَيْءٍ} لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار.
والأوّل أظهر.
وعن ابن عباس قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ينادي منادٍ يوم القيامة أين خصماء الله فتقوم القَدَرية مسودّة وجوههم مزرقّة أعينهم مائل شدقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمسًا ولا قمرًا ولا صنمًا ولا وثَنًا، ولا اتخذنا من دونك إلها» قال ابن عباس: صدقوا والله! أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون؛ ثم تلا {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} هم والله القَدَرية.
ثلاثًا.
قوله تعالى: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} أي غلب واستعلى؛ أي بوسوسته في الدنيا.
وقيل: قَوي عليهم.
وقال المفضّل: أحاط بهم.
ويحتمل رابعًا أي جمعهم وضمهم.
يقال: أحوذ الشيء أي جمعه وضم بعضه إِلى بعض، وإذا جمعهم فقد غلبهم وقوي عليهم وأحاط بهم.
{فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله} أي أوامره في العمل بطاعته.
وقيل: زواجره في النهي عن معصيته.
والنسيان قد يكون بمعنى الغفلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هنا.
{أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ} طائفته ورهطه {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} في بيعهم؛ لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدي بالضلالة.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ}
تقدم أوّل السورة.
{أولئك فِي الأذلين} أي من جملة الأذلاء لا أذلّ منهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا أُوْلَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون}
قد سبق مثله في سورة آل عمران، وسبق الكلام فيه فمن أراده فليرجع إليه.
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعًا} تقدم الكلام في نظيره غير بعيد {فَيَحْلِفُونَ لَهُ} أي لله تعالى يومئذٍ قائلين: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} في الدنيا أنها مسلمون مثلكم، والتشبيه بمجرد الحلف لهم في الدنيا وإن اختلف المحلوف عليه بناءًا على ما قدمنا من سبب النزول {وَيَحْسَبُونَ} في الآخرة {أَنَّهُمْ} بتلك الأيمان الفاجرة {على شَيْء} من جلب منفعة أو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا حيث كانوا يدفعون بها عن أرواحهم وأموالهم ويستجرون بها فوائد دنيوية {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} البالغون في الكذب إلى غاية ليس وراءها غاية حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب، وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه عز وجل كما تروّجه عند المؤمنين.
{استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه فكان مستوليًا عليهم، وقال الراغب: الحوذ أن يتبع السائق حاذي البعير أي أدبار فخذيه فيعنف في سوقه يقال: حاذ الإبل يحوذها أي ساقها سوقًا عنيفًا، وقوله تعالى: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} أي استقاهم مستوليًا عليهم، أو من قولهم: استحوذ العير على الأتان أي استولى على حاذيها أي جانبي ظهرها. اهـ.
وصرح بعض الأجلة أن الحوذ في الأصل السوق والجمع، وفي (القاموس) تقييد السوق بالسريع ثم أطلق على الاستيلاء، ومثله الأحواذ والأحوذي، وهو كما قال الأصمعي: المشمر في الأمور القاهر لها الذي لا يشذ عنه منها شيء، ومنه قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما «كان أحوذيًا نسيج وحده» مأخوذ من ذلك، واستحوذ مما جاء على الأصل في عدم إعلاله على القياس إذ قياسه استحاذ بقلب الواو ألفًا كما سمع فيه قليلًا، وقرأ به هنا أبو عمرو فجاء مخالفًا للقياس كاستنوق.
واستصوب وإن وافق الاستعمال المشهور فيه، ولذا لم يخل استعماله بالفصاحة، وفي استفعل هنا من المبالغة ما ليس في فعل {فأنساهم ذِكْرَ الله} في معنى لم يمكنهم من ذكره عز وجل بما زين لهم من الشهوات فهم لا يذكرونه أصلًا لا بقلوبهم ولا بألسنتهم {أولئك} الموصوفون بما ذكر من القبائح {حِزْبُ الشيطان} أي جنوده وأتباعه.
{أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون} أي الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم وأخذوا بدله العذاب الأليم، وفي تصدير الجملة بحرفي التنبيه والتحقيق وإظهار المتضايفين معًا في موقع الإضمار بأحد الوجهين، وتوسيط ضمير الفصل من فنون التأكيد ما لا يخفى.
{إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ} استئناف مسوق لتعليل ما قبله من خسران حزب الشيطان عبر عنهم بالموصول ذمًا لهم بما في حيز الصلة وإشعارًا بعلة الحكم {أولئك} الموصوفون بما ذكر {في الاذلين} أي في جملة من هو أذل خلق الله عز وجل من الأولين والآخرين معدودون في عدادهم لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وحيث كانت عزة الله عز وجل غير متناهية كانت ذلة من حادّة كذلك. اهـ.